فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لابد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة. والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة.. وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان! فلتوفر الجهود المبعثرة إذن، ولتحشد كلها في جبهة واحدة، لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان!
وإن الإنسان ليرثي أحيانًا ويعجب لأناس طيبين، ينفقون جهدهم في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في الفروع؛ بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم؛ ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقطوع!
فما غناء أن تنهى الناس عن أكل الحرام مثلًا في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا؛ فيستحيل ماله كله حرامًا؛ ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال.
لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله. لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟!
وما غناء أن تنهى الناس عن الفسق مثلًا في مجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة- إلا في حالة الإكراه- ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله.. لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟!
وما غناء أن تنهى الناس عن السكر في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر، ولا يعاقب إلا على حالة السكر البين في الطريق العام. وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله. لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله؟!
وما غناء أن تنهى الناس عن سب الدين؛ في مجتمع لا يعترف بسلطان الله؛ ولا يعبد فيه الله. إنما هو يتخذ أربابًا من دونه؛ ينزلون له شريعته وقانونه؛ ونظامه وأوضاعه، وقيمه وموازينه. والساب والمسبوب كلاهما ليس في دين الله. إنما هما وأهل مجتمعهما طرًا في دين من ينزلون لهم الشرائع والقوانين؛ ويضعون لهم القيم والموازين؟!
ما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال؟ ما غناء النهي عن هذه الكبائر- فضلًا عن أن يكون النهي عن الصغائر- والكبيرة الكبرى لا نهي عنها.. كبيرة الكفر بالله؛ برفض منهجه للحياة؟!
إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق، مما ينفق فيه هؤلاء «الطيبون» جهدهم وطاقتهم واهتمامهم.. إنه- في هذه المرحلة- ليس أمر تتبع الفرعيات- مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هي حدود الله. فحدود الله تقوم ابتداء على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه. فإذا لم يصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة؛ تتمثل في اعتبار شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع؛ واعتبار ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة.. فكل جهد في الفروع ضائع؛ وكل محاولة في الفروع عبث.. والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات..
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان».
وقد يجيء على المسلمين زمان لا يستطيعون فيه تغيير المنكر بأيديهم؛ ولا يستطيعون فيه تغيير المنكر بألسنتهم؛ فيبقى أضعف الإيمان؛ وهو تغييره بقلوبهم؛ وهذا ما لا يملك أحد أن يحول بينهم وبينه، إن هم كانوا حقًا على الإسلام!
وليس هذا موقفًا سلبيًا من المنكر- كما يلوح في بادئ الأمر- وتعبير الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه تغيير دليل على أنه عمل إيجابي في طبيعته.
فإنكار المنكر بالقلب، معناه احتفاظ هذا القلب بإيجابيته تجاه المنكر.. إنه ينكره ويكرهه ولا يستسلم له، ولا يعتبره الوضع الشرعي الذي يخضع له ويعترف به.. وإنكار القلوب لوضع من الأوضاع قوة إيجابية لهدم هذا الوضع المنكر، ولإقامة الوضع «المعروف» في أول فرصة تسنح، وللتربص بالمنكر حتى تواتي هذه الفرصة.. وهذا كله عمل إيجابي في التغيير.. وهو على كل حال أضعف الإيمان. فلا أقل من أن يحتفظ المسلم بأضعف الإيمان! أما الاستسلام للمنكر لأنه واقع ولأن له ضغطًا- قد يكون ساحقًا- فهو الخروج من آخر حلقة، والتخلي حتى عن أضعف الإيمان!
هذا وإلا حقت على المجتمع اللعنة التي حقت على بني إسرائيل:
{لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم. ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. لبئس ما كانوا يفعلون}.
ثم يمضي السياق إلى نهاية هذا المقطع في الحديث عن بني إسرائيل، وهو نهاية هذا الجزء. فيصف حالهم على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهي حالهم في كل زمان وفي كل مكان، فهم يتولون الذين كفروا، ويتناصرون معهم ضد الجماعة المسلمة. وعلة ذلك- مع أنهم أهل كتاب- أنهم لم يؤمنوا بالله والنبي وأنهم لم يدخلوا في دين الله الأخير.. فهم غير مؤمنين. ولو كانوا مؤمنين ما تولوا الكافرين:
{ترى كثيرًا منهم يتولون الذين كفروا. لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء. ولكن كثيرًا منهم فاسقون}.
وهذا التقرير كما ينطبق على حال اليهود- على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينطبق على حالهم اليوم وغدًا، وفي كل حين. كذلك ينطبق على الفريق الآخر من أهل الكتاب في معظم أرجاء الأرض اليوم.. مما يدعو إلى التدبر العميق في أسرار هذا القرآن، وفي عجائبه المدخرة للجماعة المسلمة في كل آن..
لقد كان اليهود هم الذين يتولون المشركين؛ ويؤلبونهم على المسلمين، {ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلًا} كما حكى عنهم القرآن الكريم. وقد تجلى هذا كله على أتمه في غزوة الأحزاب، ومن قبلها ومن بعدها كذلك؛ إلى اللحظة الحاضرة.. وما قامت إسرائيل في أرض فلسطين أخيرًا إلا بالولاء والتعاون مع الكافرين الجدد من الماديين الملحدين!
فأما الفريق الآخر من أهل الكتاب، فهو يتعاون مع المادية الإلحادية كلما كان الأمر أمر المسلمين! وهم يتعاونون مع الوثنية المشركة كذلك، كلما كانت المعركة مع المسلمين! حتى و«المسلمون» لا يمثلون الإسلام في شيء.
إلا في أنهم من ذراري قوم كانوا مسلمين! ولكنها الإحنة التي لا تهدأ على هذا الدين؛ ومن ينتمون إليه، ولو كانوا في انتمائهم مدعين!
وصدق الله العظيم: {ترى كثيرًا منهم يتولون الذين كفروا}.
{لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون}.
فهذه هي الحصيلة التي قدمتها لهم أنفسهم.. إنها سخط الله عليهم. وخلودهم في العذاب. فما أبأسها من حصيلة! وما أبأسها من تقدمة تقدمها لهم أنفسهم؛ ويا لها من ثمرة مرة. ثمرة توليهم للكافرين!
فمن منا يسمع قول الله سبحانه عن القوم؟ فلا يتخذ من عند نفسه مقررات لم يأذن بها الله: في الولاء والتناصر بين أهل هذا الدين؛ وأعدائه الذين يتولون الكافرين!
وما الدافع؟ ما دافع القوم لتولي الذين كفروا؟ إنه عدم الإيمان بالله والنبي:
{ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء. ولكن كثيرًا منهم فاسقون}.
هذه هي العلة.. إنهم لم يؤمنوا بالله والنبي.. إن كثرتهم فاسقة.. إنهم يتجانسون- إذن- مع الذين كفروا في الشعور والوجهة؛ فلا جرم يتولون الذين كفروا ولا يتولون المؤمنين..
وتبرز لنا من هذا التعقيب القرآني ثلاث حقائق بارزة:
الحقيقة الأولى: أن أهل الكتاب جميعًا- إلا القلة التي آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم- غير مؤمنين بالله. لأنهم لم يؤمنوا برسوله الأخير. ولم ينف القرآن الكريم عنهم الإيمان بالنبي وحده. بل نفى عنهم الإيمان بالله كذلك. {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء} وهو تقرير من الله سبحانه لا يقبل التأويل. مهما تكن دعواهم في الإيمان بالله.. وبخاصة إذا اعتبرنا ما هم عليه من انحراف التصور للحقيقة الإلهية كما سلف في آيات هذا الدرس وفي غيرها من آيات القرآن الكريم.
والحقيقة الثانية: أن أهل الكتاب جميعًا مدعوون إلى الدخول في دين الله، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فإن استجابوا فقد أمنوا، وأصبحوا على دين الله. وإن تولوا فهم كما وصفهم الله.
والحقيقة الثالثة: أنه لا ولاء ولا تناصر بينهم وبين المسلمين، في شأن من الشئون. لأن كل شأن من شئون الحياة عند المسلم خاضع لأمر الدين.
ويبقى أن الإسلام يأمر أهله بالإحسان إلى أهل الكتاب في العشرة والسلوك؛ وبحماية أرواحهم وأموالهم وأعراضهم في دار الإسلام؛ وبتركهم إلى ما هم فيه من عقائدهم كائنة ما تكون؛ وإلى دعوتهم بالحسنى إلى الإسلام ومجادلتهم بالحسنى كذلك. والوفاء لهم- ما وفوا- بعهدهم ومسالمتهم للمسلمين.. وهم- في أية حال- لا يكرهون على شيء في أمر الدين..
هذا هو الإسلام.. في وضوحه ونصاعته. وفي بره وسماحته..
والله يقول الحق. وهو يهدي السبيل. اهـ.

.تفسير الآية رقم (82):

قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما دل كالشمس ميلهُم إلى المشركين دون المؤمنين على أنهم في غاية العداوة لهم، صرح تعالى بذلك على طريق الاستنتاج، فقال دالًا على رسوخهم في الفسق: {لتجدن أشد الناس} أي كلهم {عداوة للذين آمنوا} أي أظهروا الإقرار بالإيمان فكيف بالراسخين فيه {اليهود} قدمهم لأنهم أشد الفريقين لأنه لا أقبح من ضال على علم {والذين أشركوا} لما جمعهم من الاستهانة بالأنبياء هؤلاء جهلًا وأولئك عنادًا وبغيًا، فعرف أن من صدق في إيمانه لا يواليهم بقلبه ولا بلسانه، وأنهم ما اجتمعوا على الموالاة إلا لاجتماعهم في أشدّية العداوة لمن آمن، فهذه الآية تعليل لما قبلها، كأنه قيل: هب أنهم لا يؤمنون بالله والنبي، وذلك لا يقتضي موادة المشركين فلِمَ والوهم حينئذ؟ فقيل: لأن الفريقين اجتمعوا في أشدية العداوة للذين آمنوا.
ولما أخبر تعالى بأبعد الناس مودة لهم، أخبر بضدهم فقال: {ولتجدن أقربهم} أي الناس {مودة للذين آمنوا} أي أوجدوا الإيمان بالقلب واللسان {الذين قالوا} وفي التوريك على قولهم إشارة إلى أنهم ما كانوا على حقيقة النصرانية {إنا نصارى} أي لقلة اهتمامهم بالدنيا بمجرد قولهم ذلك ولو لم يكونوا عريقين في الدين وإقبالهم على علم الباطن، ولذلك علله بقوله: {ذلك بأن منهم قسيسين} أي مقبلين على العلم، من القس، وهو ملامة الشيء وتتبعه {ورهبانًا} أي في غاية التخلي من الدنيا؛ ولما كان التخلي منها موجبًا للبعد من الحسد، وهو سبب لمجانبة التكبر قال: {وأنهم لا يستكبرون} أي لا يطلبون الرفعة على غيرهم ولا يوجدونها. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما ذكر من أحوال أهل الكتاب من اليهود والنصارى ما ذكره ذكر في هذه الآية أن اليهود في غاية العدواة مع المسلمين، ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العداوة، بل نبه على أنهم أشد في العداوة من المشركين من جهة أنه قدم ذكرهم على ذكر المشركين.
ولعمري أنهم كذلك.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا خَلَا يَهُودِيَّانِ بِمُسْلِمٍ إِلَّا هَمَّا بِقَتْلِهِ» وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم. اهـ.

.اللغة:

{قسيسين} القس والقسيس اسم لرئيس النصارى، ومعناه العالم.
{رهبانا} جمع راهب، وأصله من الرهبة بمعنى المخافة، والرهبانية والترهب التعبد في الصومعة.
{تفيض} الفيض ان يمتلىء الإناء ويسيل من شدة الامتلاء، يقال: فاض الماء، وفاض الدمع، قال الشاعر:
ففاضت دموع العين مني صبابة ** على النحرحتى بل دمعي محملي

{رجس} قال الزجاج: الرجس: اسم لكل ما استقذر من عمل، ويقال للعذرة والأقذار: رجس، لإنها قذارة ونجاسة.
{الجحيم} النار الشديدة الإتقاد.
{والصيد} كل ما يصطاد من حيوان وطير وغيره، فالصيد يطلق على المصيد، قال الشاعر:
صيد الملوك أرانب وثعالب ** وإذا ركبت فصيدي الأبطال

.من أقوال المفسرين:

.قال الثعلبي:

{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى} لم يرد به جميع النصارى مع ما فيهم من عداوة المسلمين وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وقتلهم وأسرهم وإحراق مصاحفهم لا ولا كرامة لهم وإنما نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه.
قال المفسرون: أئتمرت قريش بأن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على محمد فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فأفتن ما أفتن وعصم اللّه منهم من شاء ومنع اللّه رسوله بعمّه أبي طالب فلما رأى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: «إن بها ملكًا صالحًا لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد».
فاخرجوا إليه حتى يجعل اللّه للمسلمين فرجًا وأراد به النجاشي وإسمه أصحمة وهو الحبشة عطية فإنما النجاشي إسم الملك كقوله قيصر وكسرى فخرج إليها سرًا عشرون رجلًا وأربع نسوة وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والزبير بن العوام وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية وعثمان بن مضعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة وحاطب بن عمرو وسهيل بن البيضاء فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهذه الهجرة الأولى، ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين إثنين وثمانين رجلًا سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك وجّهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردهم إليه فيعصمهم اللّه وقد ذكرت هذه القصة في سورة آل عمران، فلما انصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هجرته إلى المدينة وذلك في سنة ستة من الهجرة كتب رسول اللّه عليه السلام إلى النجاشي على يدي عمرو بن أمية الضمري يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت هاجرت مع زوجها فمات زوجها وبعث إليه من عنده من المسلمين.
فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية لها يقال لها أبرهة فزوجها حطيئة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إياها وأعطتها أوضاحًا لها سرورًا بذلك وأمر بها أن يوكل من زوجها فوكلت خالد بن الوليد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول اللّه النجاشي فدعا النجاشي بأربعمائة دينار وأخذها إلى أم حبيبة على يدي أبرهة فلما جاءتها بها أعطتها منها خمسين دينارًا فقالت أبرهة: قد أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئًا فإن أرد الذي أخذت منك وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت محمدًا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وآمنت به وحاجتي إليك أن تقرئه منّي السلام قالت: نعم، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكره، فقالت: أم حبيب: فخرجنا في سفينتين وبعث النجاشي معنا الملاحين حتى قدمنا الجار ثم ركبنا الظهر إلى المدينة فوجدنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بخيبر فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه وكان يسألني عن النجاشي وقرأت عليه من أبرهة السلام فرد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: «لا أدري أنا بفتح خيبر أشد أم بقدوم جعفر» وأنزل اللّه تعالى: {عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} [الممتحنة: 7] يعني أبا سفيان مودة بتزويج أم حبيبة فقيل لأبي سفيان وهو يومئذ مشرك يحارب النبي صلى الله عليه وسلم إنّ محمّدًا قد نكح ابنتك قال: ذاك الفحل لا يقرع أنفه.
وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إبنه أرها بن أصحمة مع ستين رجلًا من الحبشة، وكتب إليه: يا رسول اللّه أشهد أنّك رسول اللّه صادقًا مصدقًا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت للّه رب العالمين، وقد بعثت إليك أرها وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليكم يا رسول اللّه.
فركبوا سفينة مع جعفر وأصحابه، حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ورأى جعفر وأصحابه رسول اللّه في سبعين رجلًا عليهم ثياب الصوف منهم إثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم خيرة الحبشة الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وتمام ومريد وأيمن فقرأ عليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا. حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: جئتنا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام فأنزل اللّه تعالى فيهم {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً} إلى قوله: {النَّصَارَى} يعني وفد النجاشي الذين غرقوا مع جعفر بن أبي طالب وهم السبعون وكانوا أصحاب الصوامع.
وقال مقاتل والكلبي: كانوا أربعين رجلًا اثنان وثلاثون في الحبشة وثمانية من أهل الشام.
عطاء: كانوا ثمانين رجلًا أربعون رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب وإثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميّون من أهل الشام.
وقال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من أهل الحق وكانوا لعيسى يؤمنون به وينتهون إليه فلما بعث اللّه محمدًا صدّقوه وآمنوا به فأثنى اللّه عليهم ذلك {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ}، أي علماء. اهـ.